اخباركردستان

لماذا تلتزم تركيا الصمت تجاه التعاون الروسي مع الكرد السوريين؟

غونول تول 
لا يفوت الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، فرصة واحدة إلا ويستغلها لمهاجمة الولايات المتحدة الأمريكية بسبب تعاونها مع القوات الكردية السورية (وحدات حماية الشعب)، التي تعتبر حليفاً أساسياً لواشنطن في الحرب ضد تنظيم “داعش”. وبشكل شبه يومي، يوجه أردوغان انتقادات لاذعة لواشنطن إثر تقديمها الأسلحة للوحدات التي يصفها أردوغان بـ “الإرهابية” ويعلن بأن السياسة الخارجية الأمريكية تعتبر انتهاكاً لمعاهدة حلف شمال الأطلسي “الناتو”. فعندما زار بريت مكجورك، المسؤول الأمريكي عن التنسيق في التحالف الدولي، أفراداً من مقاتلي وحدات حماية الشعب في بلدة كوباني والتقط صوراً مع القادة الكرد أمام الكاميرا، طالب أردوغان الولايات المتحدة بالاختيار بين “تركيا والإرهابيين”. أما وزير الخارجية التركي قال حينها إن مكجورك يجب أن يُعاد إلى واشنطن، في حين طالب صحفيون مقربون من الحكومة التركية باعتقاله.

وحينما يتعلق الأمر بالدعم الروسي لوحدات حماية الشعب، تلتزم أنقرة بالصمت التام. لم ينبس أردوغان أو أي مسؤول رفيع المستوى في الحزب الحاكم، بكلمة عندما ظهر القيادي العسكري الروسي في قاعدة حميميم مع المتحدث باسم وحدات حماية الشعب في مؤتمر صحفي مشترك أمام عدسات الصحفيين. وقال المسؤولون الروس إنهم ينفذون عمليات مشتركة مع الوحدات ضد تنظيم “داعش” في محافظة دير الزور بشرق سوريا. وزودت الطائرات الروسية الوحدات بالغطاء الجوي خلال تنفيذ العمليات، بينما قامت الوحدات بالمقابل بحماية القوات الروسية على الجانب الشرقي من نهر الفرات.
الصمت التركي تجاه التعاون الروسي مع وحدات حماية الشعب يشير إلى حقيقة مزعجة بالنسبة لحزب العدالة والتنمية الحاكم: كانت أنقرة تاريخياً ضعيفة وعرضة للخطر من السياسية الروسية الكردية. في الماضي كانت أنقرة قادرة على إبقاء موسكو تحت السيطرة. إلا أنها مكتوفة اليدين اليوم ولا تستطيع إبعاد موسكو من التعاون مع عدوها اللَدود. ربما تأمل أنقرة أن تتخلى روسيا عن الكرد مع اقتراب المعركة ضد تنظيم “داعش” من نهايتها. بيد أن الشراكة الروسية – الكردية لها جذور عميقة تمتد إلى مطلع القرن المنصرم وربما تدوم لفترة أطول مما تريده تركيا. وبينما تتراجع القوة الأمريكية وبشكل ملحوظ في منطقة الشرق الأوسط، تحاول روسيا أن تملئ الفراغ الناجم عن ذلك. وفي الحسابات الإقليمية لموسكو، ربما يكون الكرد أكثر من مجرد مقاتلين شجعان. ربما يستطيع الكرد تقديم الكرملين بمزيد من النفوذ في المنطقة.

العلاقات الروسية العميقة مع الكرد

لعب الكرد تاريخياً دوراً مهما في الجهود الروسية المبذولة لممارسة النفوذ في منطقة الشرق الأوسط. فخلال فترة الحرب الباردة استخدم الروس الكرد لتجاوز إستراتيجية الاحتواء الأمريكية في المنطقة.
بعد فترة وجيزة من انقضاء الحرب العالمية الثانية، ساعدت موسكو في إنشاء جمهورية مهاباد الكردية في الجزء الإيراني من كردستان لزيادة نفوذها في المنطقة. وبعد سحق الجيش الإيراني للقوات الكردية، لجأ المقاتلون بقيادة مصطفى البارزاني إلى الاتحاد السوفيتي.
في العراق، استخدمت موسكو الكرد كورقة رابحة ليس فقط ضد واشنطن بل أيضاً ضد بغداد. دَعم السوفييت المطالب الكردية للحكم الذاتي القومي. فخلال فترة خمسينات القرن المنصرم، عندما كانت موسكو تواجه خصماً لها في بغداد، أصبح الدعم الروسي ميزة لكبح جماح الحكومة المركزية في بغداد. بيد أنه حتى وفي حالة وجود حكومة مركزية موالية للاتحاد السوفيتي بعد عام 1958، أرادت موسكو الحفاظ على الورقة الكردية الرابحة. في ستينيات القرن المنصرم، قادت موسكو جهوداً دولية في الأمم المتحدة متهمة العراق بشن حرب إبادة جماعية ضد الكرد. وفي سبعينيات القرن الماضي، توسطت موسكو بين بغداد والكرد لتوقيع اتفاقية سلام نصت على الحكم الذاتي للكرد. بعد عام 1973، وبعد اعتماد الكرد علانية موقفاً موالياً للغرب بسبب تزايد حجم العلاقات بين موسكو وبغداد، دعم الاتحاد السوفيتي الحكومة المركزية في حربها ضد الكرد، الأمر الذي زاد حجم الطلبات على الأسلحة السوفيتية.  بغض النظر عن الاتجاه الذي مالوا إليه، كان الكرد بالنسبة لموسكو ورقة ضغط على بغداد.
خلال هذه الفترة، أقام الاتحاد السوفيتي علاقات وثيقة مع الكرد في تركيا أيضاً. وفي سبعينات القرن المنصرم، تأسس حزب العمال الكردستاني PKK، كمنظمة ماركسية – لينينية كردية قومية. تحولت أعمال فلاديمير لينين وجوزيف ستالين إلى المصدر “الإيديولوجي الرئيسي إن لم يكن الوحيد لفرضيات ومعتقدات وقيم حزب العمال.” وبعد القمع الشامل الذي أعقب الانقلاب العسكري في عام 1980 في تركيا، غادر العديد من أفراد حزب العمال البلاد نحو سوريا، حليف الاتحاد السوفيتي الوثيق، حيث تلقوا دعماً هائلاً من نظام حافظ الأسد. قدمت موسكو دعماً وتدريباً للحزب من خلال وكلائها ولكن الدعم السياسي للحزب كان علنياً.
بعد انتهاء الحرب الباردة، احتفظت روسيا بالورقة الكردية الرابحة لممارسة الضغط على تركيا. وفي مسعى منها لإغلاق الفجوة التجارية الخارجية المتوسعة وملء الهوة التي تركها انهيار الاتحاد السوفيتي، سعت تركيا إلى إقامة علاقات أوثق مع الجمهوريات الجديدة في الحديقة الروسية الخلفية. بدورها قامت موسكو، ولكبح جماح النفوذ التركي، بلعب الورقة الكردية.
شهدت فترة التسعينات أشرس المعارك بين تركيا وحزب العمال الكردستاني الذي كان قد شن تمرداً ضد الدولة التركية منذ ثمانينات القرن المنصرم. ولممارسة الضغوط على أنقرة، رحبت موسكو في منتصف التسعينات بإمكانية تأسيس برلمان كردي في المنفى بالعاصمة الروسية، موسكو. وفي عامي 1995 و 1996 على التوالي، عقدت موسكو عدة مؤتمرات دولية ضمت منظمات مقربة من حزب العمال الكردستاني. وحتى أن وسائل الإعلام التركية نشرت حينها تقارير تفيد بفتح حزب العمال الكردستاني معسكرات تدريب في موسكو، حيث كان مقاتلو الحزب يتلقون التدريبات العسكرية.
تركيا ردت بالمثل على روسيا. خلال تلك الفترة، كانت موسكو تخوض حرباً شرسة ضد الشيشان. في مطلع تسعينات القرن الماضي ومع سقوط الاتحاد السوفيتي، أطلق الانفصاليون في جمهورية روسيا الاتحادية الجديدة حملة للاستقلال قادت إلى حربين دمويتين. رفضت روسيا استقلال الشيشان مجادلة بأن الشيشان جزء من روسيا.
تمتع الشيشانيون بدعم قوي في تركيا. وخلال فترة الحرب الشيشانية الأولى، التي بدأت عام 1994، استضافت تركيا قادة شيشان عسكريين في المنفى. وقدم حينها رؤساء البلديات التركية عن حزب الرفاه المساعدات الطبية للمقاتلين الشيشانيين. وتعالت الأصوات في ذلك الوقت بين أوساط الإسلاميين والقوميين الأتراك للقيام بالتدخل العسكري في منطقة الشيشان لدعمهم في حرب الاستقلال. وذكرت وسائل الإعلام التركية ومسؤولين روس أن تركيا ترسل مساعدات مالية وعسكرية للشيشان من خلال المنظمات الشيشانية التي تتخذ من تركيا مقراً لها، وأبرزها رابطة التضامن الشيشانية – القوقازية، التي أشارت تقارير إلى امتلاكها حوالي 10 آلاف عضو في تركيا. وطالب المسؤولون الروس مراراً نظرائهم الأتراك بإغلاق هذه المنظمات وإيقاف إرسال المتطوعين والأسلحة إلى الشيشان.
وتوج هذا في اتفاق بروتوكولي لـ “منع الإرهاب” عام 1995، وافقت فيه روسيا على عدم السماح لحزب العمال الكردستاني بتأسيس منظمات له في روسيا. بالمقابل، وعدت تركيا روسيا بأنها لن تدعم القضية الشيشانية. على الرغم من الاتفاق، بقيت حالة انعدام الثقة الثنائية سائدة.
وفي مطلع القرن الحالي، موسكو وأنقرة، قررتا فتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية بين البلدين. ففي عام 2005، التقى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، برئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، في منتجع سوتشي على البحر الأسود وتوصلا إلى اتفاقية لدعم مواقف بعضهما البعض حول الكرد والشيشان. لوهلة بدا وكأن الخلافات حول القضية الكردية قد تبددت.

الصراع السوري يعيد القضية الكردية إلى الصدارة

بيد أنه وبعد نشوب الصراع السوري، عادت القضية الكردية لتتصدر المشهد في العلاقات الروسية – التركية. وعقب قيام تركيا بإسقاط طائرة حربية روسية لانتهاكها المجال الجوي التركي، قامت موسكو بتزويد وحدات حماية الشعب بالأسلحة في غرب سوريا. وفي شباط 2016، فتح الكرد بعثة دبلوماسية في العاصمة الروسية، موسكو. ولاحقاً في آذار 2017، انتشرت تقارير حول قيام روسيا ببناء قاعدة عسكرية في منطقة عفرين الكردية، حيث يقوم المستشارون العسكريون الروس بتقديم التدريبات للقوات الكردية وهو ما أثار دهشة وحفيظة الأتراك.
وقدمت روسيا أيضاً دعماً دبلوماسياً للكرد السوريين. وعلى نحو أثار هلع تركيا، اقترحت روسيا مسودة دستور مطلع العام الجاري يتضمن بنوداً حول الحكم الذاتي الكردي. ومؤخراً قررت موسكو دعوة حزب الاتحاد الديمقراطي – الجناح السياسي لوحدات حماية الشعب – إلى مؤتمر المجموعات الأثنية السورية في سوتشي وأعلنت بأن الحزب سينضم إلى محادثات الآستانة. أصبحت هذه القرارات أشواكاً على طريق ترميم العلاقات الثنائية. على الرغم من الاعتراضات التركية، استمر المسؤولون الروس بالمجادلة حول ضرورة حضور حزب الاتحاد الديمقراطي على طاولة المفاوضات عند مناقشة مستقبل سوريا.
بالنسبة لموسكو يعني التعاون مع وحدات حماية الشعب الحفاظ على ممارسة الضغط السياسي على تركيا والحفاظ على دعم قوة قتالية فعالة في الحرب ضد تنظيم “داعش” الذي يعتبر مصدر قلق كبير للروس. ولكن كما في الماضي، يخدم الكرد روسيا في غاياتها وسياستها الإقليمية. الكرد يوفرون قناة للتأثير في الشرق الأوسط.
ولتحقيق هذه الغاية تقوم روسيا الآن بالتقرب من الكرد العراقيين أيضاً. فبينما قامت واشنطن، دول الاتحاد الأوروبي، تركيـا، وإيران بمعارضة خطوة الكرد العراقيين المتمثلة بإجراء الاستفتاء للاستقلال عن العراق في أيلول الفائت، لم تصدر موسكو أي بيانات أو تطلق أي دعوات لإلغاء التصويت. بدلاً من ذلك، أعلنت روسيا عن استثمارها في مجال الطاقة بإقليم كردستان وأصبحت الممول الرئيسي في اتفاقات الطاقة الكردية. هذه الخطوة لا توفر لروسيا النفوذ في السياسة العراقية فحسب، بل تمكنها أيضاً من تثبت الوجود الروسي في السوق التي لطالما سعت تركيا إلى استغلاله للحد من الاعتماد على الطاقة الروسية.
وبالنظر إلى اهتمام روسيا بالعودة وبقوة إلى المنطقة، فمن المرجح أن تسعى إلى تعميق علاقاتها مع الكرد. في تركيا، يعيد هذا الاحتمال ذكريات فترة التسعينات إلى الأذهان. في تلك السنوات كانت القضية الكردية تمثل كعب أخيل بالنسبة لتركيا. ولكن على عكس تلك الفترة، لا تملك تركيا أي نفوذ يمكنها من مواجهة التحركات الروسية. فمع وجود قائد شيشاني موالي للروس في السلطة، لم تعد روسيا ضعيفة ومعرضة لخطر الحركة القومية الشيشانية كما في السابق، ما يحرم أنقرة من النفوذ والتأثير اللذين تمتعت بهما سابقاً.
وهذا يترك تركيا ضعيفة أمام روسيا. المخرج الوحيد هو عودة أنقرة إلى مفاوضات السلام مع كردها. بيد أنه طريق مظلم قبل الانتخابات الرئاسية عام 2019. كما ويلعب أردوغان على القوميين الأتراك، ما يجعل العودة إلى المفاوضات مع الكرد محفوفة بالمخاطر على الصعيد السياسي بالنسبة للرئيس التركي. ولحين حل المسألة الكردية، ستلتزم أنقرة الصمت حيال التقارب الروسي نحو الكرد، بينما ستهاجم واشنطن بعنف لفعلها الأمر ذاته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى