آخر الأخبار
اراء وحواراتحركة التجديد الكردستانيسورياكردستان

مناعة الوعي: استراتيجية كُردية ضد الإشاعات والحرب النفسية

بقلم: د. رزگار قاسم رئيس حركة التجديد الكُردستاني وممثل مسد في ألمانيا

مناعة الوعي: استراتيجية كُردية ضد الإشاعات والحرب النفسية

بقلم: د. رزگار قاسم رئيس حركة التجديد الكُردستاني وممثل مسد في ألمانيا

 

أكتب هذه السطور من موقع سياسي ومفكر يراقب المشهد السوري والكُردي بعين لا تملُّ من السؤال ولا تخشى من الحقيقة. ليست هذه مقالة تقليدية، ولا هي بيان حزبي بارد. هي شهادة فكرية وسياسية تلتقط معاني الأزمة في عمقها النفسي والإعلامي وتعرض استراتيجية مواجهة تستند إلى وعيٍ معرفي وممارسة سياسية لا تنكفئ على ردود الفعل.

سوريا التي تلاشى نظامها القديم لم تلد فوراً أرضاً مستقرة، بل ولّدت أرضاً جديدة تتحول سريعاً إلى مسرح تناقضات. في مارس 2025 جرى توقيع اتفاق بين قيادة قوات سورية الديمقراطية والسلطة الانتقالية بهدف دمج مؤسسات قسد داخل مؤسسات الدولة. كان الاتفاق في ظاهره خطوة سياسية تاريخية قد تقلّص هامش الحرب العسكرية. لكن الواقع على الأرض لم يتحول إلى استقرار آني. الاتفاق ظل هشا. التوترات استمرت، المفاوضات تعثرت أحياناً، واحتدام التنافس على النفوذ وترتيب مراكز القوة خلق حالة من عدم اليقين لدى شعوبٍ أنهكتها الحروب. 

هذه الهشاشة السياسية هي أرض خصبة للحرب النفسية. الحرب النفسية ليست نشاطاً عفوياً. إنها علم يملك أدواته وطرائقه ومرتكزاته. هناك من يزرع الشائعة كي يصنع رواية تُفضي إلى اهتزاز الثقة. هناك من يبث تلميحات الخيانة كي يهزّ ولاء الجماهير لقادتهم. وهناك أدوات استهداف أكثر دهاءً؛ أدوات تبدو كردية، تتحدث بكردية، لكنها تعمل لصالح خصوم الكرد. هؤلاء ليسوا جهلة فقط. بعضهم يعرف فعلاً ما يفعل. يعرف كيف يستميل الجماهير بكلماتٍ مألوفة وبمصطلحاتٍ وطنية ليحقن في جسد الحركة سموم الشك والتفكك.

أريد أن أضع النقاط التالية أمام القارئ كإطار فهمي واستراتيجي. الأولى: الحرب النفسية تهدف إلى تغيير سلوك الجماهير لا بالضرورة إلى تحويل الحقائق على الأرض. عندما تنجح حملة تشويه متقنة فإنها تُحدث فراغ ثقة ينعكس سياسياً بقرارات متسرعة، بانسحابات، بتآكل الحضور المدني، وبفقدان القدرة على التحالف. الثانية: أدوات الحرب النفسية متعددة. منها ما يعمل على تشويه صورة القيادة، ومنها ما يختص بتضخيم خطأ بسيط كي يصبح فعل خيانة، ومنها ما يستخدم الأكاذيب الدقيقة شبه الحقيقية. الثالثة: مصدر الأذى ليس فقط الخارج بل الداخل أيضاً. فرق كبيرة بين من يخطئ بلا وعي وبين من يعمل متعمداً. الفرق هنا هو فرق المنهج. ما يُسمى بـ”الأداة الكردية” التي تخون ليست مجرد ملوث سياسي، بل تشكل ورماً خبيثاً إذا تُرك دون تشخيص وعلاج.

لا يكفي أن نرد على كل إشاعة برد عاطفي. خصمنا يريدنا في حالة انفعال. رد الفعل هو ساحة يُقحم بها المناضل ليخسر توازنه. لذلك الدفاع الأول يجب أن يكون معرفياً. نحن بحاجة إلى برامج تثقيف سياسي ونفسي تستهدف القاعدة الجماهيرية قبل أن تستهدف القادة. هذا يعني مدارس سياسية صغيرة تعمل على تعليم: كيف تُصنع الإشاعة، كيف تُفكك الرواية المضادة، كيف نقرأ الأجندات الخفية وراء كل رسالة تبدو محلية. هذه مدارس لا تكتب في بيان صحفي، لكنها تُفعل ثقافياً.

إنّ إدراك من يلعب دور الأداة الواعية هو ضرورة عملية. شخص يظهر ككردي ويعمل لخدمة مشروع معادٍ. كيف نكشفه؟ بالمعايير التالية: مآربه العملية، منابر التمويل، نمط تكرار الروايات التي يروج لها، والتحالفات الخفية. كشف هذه البنى لا يعني مطاردة الرأي المختلف بل يعني فضح الشبكات التي تعمل بنية مسخ الهوية وتحويلها إلى سلعة لدى خصوم القضية. أما الجهلاء الذين يكررون الأكاذيب دون تفكير فهم ضحايا بالحقيقة. معالجتهم ليست عقاباً بل تعليم. لكن التعامل مع الأداة الواعية يجب أن يكون سياسياً وحاسماً.

في المشهد السياسي الحالي أثبتت التجارب أن القضايا الشكلية تبتلع الجوهر عندما تفتقر إلى مناعة نفسية. قبل أشهر تداولت الساحات أنباء عن تسليم بعض مراكز الاعتقال والملفات ذات الصلة بالأمن إلى بغداد أو إلى دمشق. نقل السجناء وتوزيع إدارة المعتقلات له بعد أمني وقانوني. لكنه له بعد آخر نفساني؛ إذ كلما شاع أن قسد تتخلى عن مسؤولياتها أو أن الاتفاقات تُجرى بعيداً عن هموم الناس، يخلق ذلك قصص العجز والخذلان. هذا ما حدث مع قضايا المعتقلين وأصدقاؤهم وذووهم. إن معالجة هذا الجانب لا تكون فقط عبر البيانات القانونية، بل عبر رعاية نفسية وشفافية عملية ومشاركة مجتمعية تُنهي آفة الشك. 

المجال الإعلامي هو اليوم ساحتنا المفتوحة. إن لم نملكه فكرياً وتنظيمياً فَمَن سيملكه؟ إعلام الخصم لا يقتصر على مقالة هنا أو تغريدة هناك. إنه بُنية كاملة من منصات ومصادر تمويل وجامعي بيانات ومُحللين محترفين. لهذا أرى أولويات عملية: تأسيس مؤسسات إعلامية محترفة قادرة على السرد طويل المدى. ليس فقط الرد على فبركات أو فضح أكاذيب. المطلوب إنتاج سرد بديل يشرح الخيارات ويضع الحقائق في سياقها الزمني والسياسي. السرد الذي يقنع الناس بأن خطوة هي جزء من مسار طويل وأن الخجل من الخطأ الأصغر لا يعني انتهاء المشروع. السرد يحتاج إلى أدلة، إلى ملفات مفتوحة، إلى تقارير مجمعة، إلى شهادات مباشرة من المواطن. هذا السرد حين يُقترن برؤية سياسية واضحة يتحول إلى مناعة ضد البروباغاندا. 

السياسة ليست أخلاقاً فقط ولا هي فن إدارة أزمات فقط. السياسة فن الزمن وفن الذاكرة. علينا أن نعيد كتابة جزء من ذاكرتنا الجماعية بحيث لا تُنسى إنجازاتنا بسبب حملة تشويه. إن أعداء الكرد يحاربون الذاكرة. يمزّقون السرد التاريخي لكي يحولوا النضال إلى جملة دون نهاية. لذا ثمة ضرورة لعملية توثيق فورية وعلمية. ثمة ضرورة لتكوين أرشيف رقمي ووثائقي يبسط الحقيقة أمام كل محاولة تزييف. التوثيق مفيد داخلياً ليعالج شقوق الثقة، وخارجياً ليعرّي الدعاوى الزائفة لدى المحافل الدولية.

ثم هناك بعد أخير ولكنه مركزي وهو الصناعة الداخلية للقيادة. القائد اليوم يجب أن يكون باحثاً في نفس الجماعة بقدر ما هو قائد على الأرض. القيادة تحتاج أدوات نفسية. تحتاج فريقاً للاتصال النفسي الاجتماعي. تحتاج مختصين في علم النفس السياسي يعملون معها على صياغة الخطاب العام وفق ما يحتاجه الجمهور من استقرار وجدوى واستمرارية. القيادة التي تُهمل هذا البُعد تصبح عرضة لابتزاز السرد المضاد.

وأخيراً لا أريد أن أختم بنداء تقليدي. أريد أن أختم بموقف معرفي: الحرب النفسية والإعلامية لن تتوقف. بعض أدواتها ستتطور وتصبح أكثر دهاءً مع الزمن. ولكن هناك ميزتَين لا يمكن لخصمنا اختراقهما بسهولة. الأولى: أصالة الهوية. الهوية التي تُروى وتُعاش لا تُفقد بعرضٍ إعلامي. الثانية: الوعي الجماعي. الجماهير التي تفهم آليات التضليل تصبح مناعة ذاتية. لذا عملياً ما أقترحه ليس حلاً سحرياً، لكنه مسار طويل وممنهج يبدأ بالتثقيف ويستمر بالتنظيم وينتهي بصناعة سرد يستطيع أن يتحمل اختبارات الزمن.

كما أن مواجهة الحرب الإعلامية تتطلب تطويراً منظّمياً لمؤسساتنا الإعلامية: ليس مجرد زيادة في الإنتاج بل بناء مؤسسات احترافية قادرة على التخطيط الاستراتيجي، رصد واستقئصاء، وإدارة الأزمات الإعلامية بمنهج علمي. علينا توظيف خبرات مختصة — صحفيين محترفين، محللي بيانات، مختصين في التحقق من الوقائع، وخبراء في التواصل النفسي والاجتماعي — وإقامة مدارس تدريبية داخلية وشراكات مع جامعات ومؤسسات مدنية لتأهيل كوادرنا. نحتاج أيضاً إلى مختبرات إنتاج رقمي تتقن أدوات السرد الطويل، صحافة البيانات، وتقنيات كشف الحملات الممولة آلياً، إلى جانب وحدات متخصصة في التوثيق والأرشفة الرقمية. لا يكفي الموارد المادية فقط؛ بل ضرورة ثقافة مؤسسية تُقدّر الجودة والموضوعية والشفافية، وآليات تقييم دورية تقيس فاعلية السرد وتعدل الاستراتيجيات وفق نتائج قابلة للقياس. الاستعانة بالخبرات الخارجية، لا سيما من الشتات الكُردي ومنظمات إعلامية مستقلة، يمكن أن يسرّع عملية الاحتراف ويعطي مؤسساتنا أدوات وإطارات عمل مجرّبة.

أدعو زملائي القادة ومناضلاتنا ومناضلينا أن يجعلوا من هذه المعركة أولوية. ليس لأن الإعلام أقدر من السلاح، بل لأن التحكم في العقل هو ذلك الحبكة التي تقرر من ينتصر حين تنتهي المدافع. التاريخ الذي نريد أن نتركه لأطفالنا ليس تاريخ هزائم معنوية. دعونا نكتب تاريخاً يكون فيه وعينا خط الدفاع الأول وسلاحنا الأكثر فعالية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى