اراء وحوارات

الراتب مقابل حماية النظام

سلام أحمد

ادهشني الفلم الذي شاهدته مؤخراً، وكان بعنوان لا مفرّ ( No Escape ) وهو يروي قصة خبير أمريكي يسافر مع عائلته إلى إحدى دول الشرق الأقصى، ويبدأ هناك انقلاب شعبيّ – إذا صحّ التعبير – ضد الحاكم ويبدأون بنحر كل أجنبيّ عن البلاد، فيهرب هو وعائلته إلى حيث لا مفر، وفي طريق الهروب يرى جرائم لا توصف بحق الابرياء، حتى ينتهي به المطاف إلى حدود دولة مجاورة هو وعائلته.

عشت أثناء متابعتي لهذه الفلم الساعات الاخيرة لي في دمشق، نفس القلق، ونفس الشعور الذي ينتاب المرء حين يشعر أنه مهدّد في كل لحظة دون أن يعلم السبب، حتى لو لم تكن مذنباً، تجد نفسك متهماً وأنت تجوب شوارع دمشق، على كل حاجز تمرّ تجد أصابع الاتهام تنطلق كالشرار من أعين القائمين على الحواجز.

وهذا هو نظام الأسد، سياسته تعتمد على تعليمك الشعور بالجريمة المسبقة، أنت مدان، حيثما كنت يجب أن تعيش هذا الشعور، في بيتك، في الشارع، في عملك، يجب أن تتعلّم أن لا أمان لك طالما أن هذا النظام مهدّد بالسقوط.

من يعيش في دمشق سيشعر (أو سيزرعون فيك شعوراً) أنه لا شيء، أنه مقصّر، أنه عالّة على النظام لمجرد أنك تجلس في بيتك. يجب أن تكون متحمساً للنظام ليس بالكلام فقط، بل يجب أن يظهر ذلك في أفعالك أيضاً.

إنه الإرهاب النفسيّ الذي يُمارس عليك طالما تعيش في دمشق، كل الشعب مدان، لذا إن مررت على حاجزٍ وظهر لديهم – بالخطأ – أن اسمك مشابه لاسم شخص ما مطلوب، فهذا يعني أنك ستعيش في معتقلاتهم لأكثر من شهر حتى يتأكدوا أن لا علاقة لك بالقصة كلها، وهذا ما حدث فعلاً مع أحد زملائنا، وعندما زرناه بعد خروجه من المعتقل، سألناه عن وضعه، قال باختصار: أنا أحب وطني !!. لم نكن نعلم أنهم يعلمون الناس في المعتقل حب الوطن.! فحتى  بعد خروجك من المعتقل ممنوعٌ عليك الحديث عن (الخدمة) المقدمة لك هناك.

يخطأ من يقول أن نظام بشار الأسد هو صانع داعش، لا فرق بينهما في الحقيقة، هما وجهان لعملة واحدة.

حقيقة، إن ذاكرتنا الضعيفة ورؤيتنا لجرائم داعش الآن هي التي تغطي على جرائم بشار الأسد، لكن ما فعله هذا النظام في البداية –وحتى هذه اللحظة في الخفاء- لا يختلف إطلاقاً عما تقوم به تنظيم الدولة.

فقد شاهدنا حالات القتل البطيء والحرق والتصفيات بدم بارد، والكثير الكثير من الجرائم التي قام بها هذا النظام، قد يكون حزّ الرقاب فقط هو من اختصاص داعش، كي لا ننسبها إلى نظام بشار الأسد فنكون قد ظلمنا المجرم فيما لم يخطر على باله من جرائم. لا فرق بين ولائك بالغصب لنظام بشار أو ولائك لداعش.

كنتُ أظنّ في الفترة الأخيرة التي بقيتُ فيها في دمشق أن تغيرات قد حدثت في سلوك النظام بعد كل هذه السنوات من الحرب، وأن تلك الشراسة التي سالت من فم طغيانه قد همُدت، لأن أربابها ماتوا وقتلوا. لكن تبين أن النظام لازال يعامل شعبه –أو ما تبقّى من شعبه- كالغنم.

ففكرة لجان الحماية الذاتية التي ابتدعوها في الآونة الأخيرة –والخاصة بموظفي الدولة – تدلّ بشكل قاطع، أنك ستشارك في حرب بقاء الأسد حتماً، ولا مفرّ حتى لو تجاوزت سن الاحتياط، وكأن شعار المرحلة الجديدة هو: طالما أن النظام يقدّم لك راتباً فأنت مسؤول عن حمايته.

وكالعادة ودون توضيح شيء ساقواً الموظفين إلى فروعهم الحزبية كالغنم تماماً، وقالوا: هناك ستعرفون، ونحن نثق بوطنيتكم، عرفنا وقتها ان الشغل الشاغل للنظام هو تعليم وزرع الوطنية !!

وعندما عادوا من الفروع الحزبية كنتَ تجد كتل من الموظفين موزعة هنا وهناك، ولسان حال الكل يقول: متى سأغادر دمشق. لأن المهمات التي تكلموا عنها – إن كنتَ واعياً لما يدور حولك – ستكون نهايتها الموت المحتّم من أجل بشار الاسد، كانت مهماتهم ضحكاً على الذقون.

والطريف في الأمر أن أحد المدراء لإحدى المؤسسات الحكومية حين اجتماعه مع موظفيه –بعد أن رأي الوجوم على وجوههم وبعد أن رأي الاعتذارات المطبوعة لأكثر الموظفين – قال: أنا أخجل منكم، هل يعقل أن يكون عدد المنتسبين للجان الحماية الذاتية من عمال النظافة أكثر منكم ؟؟ ولسان حال الموظفين يقول: لو يعلم عمال النظافة ما ينتظرهم …؟!!

كان طريقي إلى مطار دمشق – الرحلة الأخيرة التي أطأ فيها أراضيها- محفوف بالقلق وأصابع الاتهام المنطلقة من أعين كل القائمين على المطار وما قبل المطار، لأنك ستقابل أكثر من حاجزٍ للنظام، وأكثر من عين مفتّشة في داخلك كي تثبت عليك الإدانة بما لم تفعلهُ، ولم يهدأ لي بال إلا عندما ارتفعت الطائرة مغادرة تلك الأرض التي عشقتها. عادة يخاف الانسان من ارتفاع الطائرة، لكن في هذا الموقف بالذات كنت سعيداً بارتفاعها، لأنني تأكدت من عدم عودتي إلى ذاك السواد وتلك الحواجز التي تملؤك رعباً.

دمشق محاصرة، ليست من أحد، إنما من نظام بشار الاسد نفسه، والشعب هناك يعيش هذا الحصار باستكانة، مضطراً، ولن يشعر المرء بحلاوة الخروج من السجن إلا عند مغادرة دمشق. ليس لبشاعة دمشق، فهي الجميلة أبداً، لكن لبشاعة من استبدّ بها وجعلها منطلقاً لجرائمه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى