
السويداء – رويترز
في مشهد يختصر قسوة الصراع السوري وتعقيداته الطائفية، كشفت وكالة “رويترز” في تقرير استقصائي مفصل كيف نفذ مسلحون سلسلة من عمليات الإعدام الميداني ضد مدنيين دروز في محافظة السويداء جنوب سوريا، مستخدمين الأسلحة بيد، والكاميرا في اليد الأخرى. التوثيق لم يكن عرضيًا، بل بدا جزءًا عضويًا من الجريمة، وكأن القتل كان بحاجة إلى شهود – ولو كانوا خلف شاشات الهواتف.
الكاميرا والسلاح.. أداة واحدة
في أحد الفيديوهات التي حصلت عليها رويترز وتم التحقق من صحتها من خلال تحليل بصري ومكاني، يظهر ثلاثة رجال من عائلة “عرنوس” واقفين على شرفة منزل في مدينة السويداء، يبدون صامتين وتحت تهديد مباشر. أحد المسلحين يوجه الكاميرا إليهم، بينما يمسك آخر بسلاح ناري. بعد لحظة صمت ثقيل، يبدأ القتل. يسقط الثلاثة واحدًا تلو الآخر من على الشرفة إلى الشارع، والعدسة توثق.
تكرر هذا النمط في موقعين آخرين: في بئر مياه ببلدة “ثعلة”، حيث أُعدم رجل ستيني يُدعى منير الرجمة بعد سؤاله عن انتمائه الديني، وفي ساحة عامة بوسط المدينة حيث صفّ ثمانية رجال من عائلة “ساريا”، بينهم المواطن السوري-الأمريكي “حسام ساريا”، وأطلق عليهم الرصاص من مسافة قريبة على مرأى الكاميرا.
المذبحة: مجازر ممنهجة بحق المدنيين
تقول رويترز إن المقاطع المصورة الثلاثة توثق لحظة إعدام ما لا يقل عن 12 مدنيًا من الطائفة الدرزية، في عمليات منفصلة لكنها مترابطة، جرت في 14 و15 يوليو. الصور والفيديوهات التي تم التحقق منها تتفق مع شهادات أقارب الضحايا الذين أكدوا لرويترز أن أبناءهم كانوا عزّلًا، لا ينتمون لأي تنظيم عسكري، ولم تكن هناك معركة أو اشتباك في المواقع التي أُعدموا فيها.
الضحايا بينهم أب وابناه، وشقيقان، وموظفون مدنيون، وآخرون كانوا يعملون في توصيل المواد الغذائية والمساعدات أثناء الحصار الذي فُرض على المدينة من جهات عدة.
خلفية التصعيد: دروز وبدو… وجيش
التوتر في السويداء بدأ يتصاعد منذ أوائل يوليو، بعد مناوشات بين مسلحين دروز وفصائل بدوية تتهمها الساكنة المحلية بالارتباط بتنظيمات جهادية متطرفة. لكن ما أدى إلى الانفجار كان دخول قوات الجيش السوري وفصائل أمنية إلى قلب المدينة في 13 يوليو، تحت ذريعة حفظ الأمن.
بدلاً من تهدئة التوتر، فاقم التدخل الأمور. ففي أقل من عشرة أيام، قُتل أكثر من ألف شخص، وفقاً لشبكة حقوقية سورية، بينهم أطفال ونساء وعاملون في المجال الطبي. أكثر من 500 جثة وصلت إلى مستشفى المدينة، معظمها مصابة بطلقات من مسافة قريبة، أو بطعنات وذبح، بينها حالات بقطع الرأس.
إحدى أكثر الشهادات فظاعة وردت من طبيب شرعي في المستشفى تحدّث لرويترز عن جثة طفلة عمرها 15 عامًا قُتلت بطريقة تشبه الذبح، وآثار التعذيب بادية على جسدها.
الدولة ترد: وعود بالتحقيق… لا نتائج
مع تزايد الضغوط الحقوقية وتداول مقاطع الفيديو على وسائل التواصل، أصدرت وزارة الدفاع السورية بيانًا في 22 يوليو تعترف فيه بوجود “انتهاكات مروعة” ارتُكبت من قبل أفراد يرتدون زيًا عسكريًا، متعهدة بالتحقيق ومحاسبة الفاعلين “مهما كانت رتبهم”.
في اليوم نفسه، أعلنت وزارة الداخلية عن فتح تحقيق جنائي في عمليات “إعدام خارج القانون” نفذها “مجهولون” – دون أن تشير إلى أية مسؤولية رسمية مباشرة. وحتى لحظة إعداد هذا التقرير، لم يُعلن عن توقيف أي شخص أو صدور نتائج تحقيقات مستقلة.
العائلات تتهم… وتنتظر عدالة بعيدة
في مقابلات متعددة أجرتها رويترز مع أقارب الضحايا في السويداء وخارجها، أجمعت العائلات على اتهام واضح: القوات الحكومية أو جماعات مسلحة موالية لها تقف خلف ما جرى. بعضهم أشار إلى لهجات المتحدثين في الفيديوهات، وبعضهم كشف عن تهديدات سبقت عمليات التصفية.
“لم تكن هذه مجزرة عشوائية”، تقول سارة، شقيقة أحد الضحايا. “كانوا يعرفون من يقتلون، وكيف يوثقون القتل. وكأنهم يريدون أن يرسلوا لنا رسالة: نحن الدولة، ونحن السكين”.
سؤال معلّق: من صوّر؟ ولماذا؟
ما يثير القلق أكثر من القتل ذاته، هو الطابع الاستعراضي للجريمة. المقاطع لم تُسرّب فقط، بل نُشرت بشكل متعمد، وعلى صفحات تحمل عناوين دينية أو قومية ذات طابع متشدد. يفتح هذا الباب أمام احتمال أن تكون عمليات التوثيق جزءًا من أجندة دعائية أو طائفية تهدف إلى ترهيب المجتمع المحلي، وتفكيك ما تبقى من الروابط الوطنية.
لكن حتى الآن، لم تتمكن أي جهة رسمية أو حقوقية من تحديد هوية المسلحين أو مكان تصوير الفيديوهات بدقة، رغم تطابق الوجوه والزي العسكري مع تشكيلات يُعتقد أنها تابعة للفرقة الخامسة أو أمن الدولة التابعين لحكومة هيئة تحرير الشام، بحسب تحليل بصري أجرته رويترز وخبراء مستقلون.
لمراجعة تقرير رويترز: