آخر الأخبار
اراء وحواراتحركة التجديد الكردستانيسوريا

الكُرد في قلب النظام الإقليمي الجديد: قوة، وحدة، واستراتيجية

بقلم: د. رزگار قاسم رئيس حركة التجديد الكُردستاني – سوريا

بقلم: د. رزگار قاسم

رئيس حركة التجديد الكُردستاني – سوريا

هناك لحظات في التاريخ لا تكون مجرد انتقال من مرحلة إلى أخرى، بل انفصام كامل في بنية الزمن، لحظة تتغير فيها أجندات الدول، وتتبدل فيها خرائط القوة والنفوذ، وتُستبدل فيها أنظمة سياسية بأخرى قبل أن تعلن سقوطها رسمياً. ما يمرّ به الكرد اليوم هو واحدة من تلك اللحظات النادرة، لكن هذه المرة مع فارق جوهري متمثل في وحدة الموقف الكوردي الذي أحدث تحوّلًا تاريخياً في مسار القضية الكردية في سوريا، وأعاد القوة إلى يد الكورد.

في السادس والعشرين من أيار شهدت الحركة السياسية الكُردية حدثاً تاريخياً غير مسبوق، حين انعقد كونفرانس وحدة الموقف الكوردي الذي شكّل لحظة فارقة في مسار القضية الكُردية. فقد جمع هذا الكونفرانس إجماعاً كورديّاً شاملاً ضم أهم القوى السياسية في روجافا وامتد إلى جميع أجزاء كردستان، مؤكداً أن القضية الكُردية تتجاوز حدود المناطق وتفرض نفسها كقضية قومية موحدة. وقد حضر المؤتمر وفود من شمال كردستان، ممثلة بحزب الشعوب الديمقراطية (DEM)، ومن إقليم كردستان العراق، الحزب الديمقراطي الكُردستاني (PDK) وحزب الاتحاد الوطني الكُردستاني (PUK)، إضافة إلى مندوب رسمي عن الرئيس مسعود البرزاني، وصولاً إلى وفد من كردستان إيران، ما جعله حدثاً تاريخياً يمثل أول وحدة كُرديّة حقيقية على هذا المستوى منذ نصف قرن.

لقد أسقط هذا المؤتمر منطق الانقسامات المزمنة التي أضعفت الحركة الكُردية على مدى عقود، وأنهى حالة التشرذم السياسي التي كانت تشكل العقبة الأساسية أمام أي مشروع قومي متكامل. فالوحدة التي تمّ تحقيقها لم تعد مجرد شعار يُرفع في البيانات الإعلامية أو مناسبة للتصوير الرمزي، بل أصبحت قوة ردع استراتيجية، فرضت نفسها على جميع الأطراف الإقليمية والدولية، بما في ذلك تركيا، التي لم تعد قادرة على التفكير في شن أي عملية عسكرية ضد الكُرد في روجافا، إذ أصبح الكُرد اليوم موحّدين في موقفهم السياسي والاستراتيجي، وقادرين على التحرك الجماعي والدفاع عن مكتسباتهم بكل حزم.

الحاجة إلى مشروع وطني كُردي موحّد

إن التحوّل التاريخي الذي أطلقه كونفرانس قامشلو لا يكتمل ولا يتحول إلى قوة دائمة ما لم يُترجم إلى مشروع قومي كردي موحّد، قادر على حمل المرحلة المقبلة بأدوات سياسية وتنظيمية متينة. فالوحدة ليست نصاً نظرياً ولا موقفاً عاطفياً، بل بنية مؤسساتية تعزز الثقة وتحدد اتجاه الحركة الكردية وسط تقاطع المصالح الدولية والإقليمية. وقد آن الأوان للكُرد أن يتحرروا من عقلية “نحن نطالب بحقوقنا”، التي ولدت تحت وطأة الأنظمة الفاشية في أجزاء كردستان المختلفة، والتي مارست الإقصاء السياسي والاقتصادي والاجتماعي ضد شعوبنا، وقمعت مطالبنا الوطنية وقوضت هويتنا القومية على مدار عقود. تلك العقلية التي ربطت وجودنا السياسي بامتداد الداعمين الخارجيين وبقدرتهم على منح الاعتراف أو الحماية لم تعد كافية في زمن أصبح فيه الكورد قوة حقيقية على الأرض، قوة اكتسبتها شعوبنا عبر نضال طويل وكفاح متواصل، سطر فيه أبطالنا أعظم البطولات في وجه القمع والظلم.

لقد أثبتت ثورة روجافا، التي انطلقت من كوباني في 19 تموز، أن الشعب الكُردي قادر على بناء تجربة فريدة من نوعها في مقاومة الاستبداد والتطرف، وأنه يستطيع مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية بنفسه، دون انتظار رحمة أحد. كانت كوباني قلعة صمود وأيقونة عالمية للمقاومة، حيث دمج الثوار الكُرد بين إرادة شعبية حقيقية وقدرة عسكرية وتنظيمية، في مواجهة الإرهاب والفاشية، مؤكدين أن وجود الكُرد ليس مجرد مطلب أو حق يُمنح، بل واقع يصنعه المناضل الكُردي مستمدا قوته من عزيمة شعبه.

إن هذا السياق يجعل من العقلية الكردية القديمة، التي طالما انتظرت الاعتراف بوجودها وحقها في العيش الكريم مطالبةً حقوقها من أنظمة فاشية أسست سياساتها على طمس الهوية الكُردية، والتي حاولت صهرها قسراً من خلال عمليات التتريك والتعريب، هذه العقلية لم تعد صالحة للتعامل مع الواقع الحالي. فقد أصبح واضحاً أن انتظار العطف أو الاعتماد على وساطة خارجية لم يعد مجدياً، وأن النضال الواقعي يحتاج إلى إرادة ذاتية، قوة تنظيمية، ورؤية استراتيجية واضحة.

اليوم، الكُرد يملكون قوة تاريخية وفاعلة، لهم حضور سياسي وإداري وعسكري حقيقي في المنطقة، ويمتلكون تجربة استثنائية أثبتت جدارتها في مواجهة التحديات الكبيرة. هذه القوة لم تأتِ من فراغ، بل هي نتاج نضال مستمر لشعب صمد في وجه الأنظمة القمعية والفاشية الأعتى إجراماً والإقصاء الممنهج، وصاغ تجارب ثورية حقيقية على الأرض، جسدت نموذجاً للمقاومة والتنظيم الشعبي، وقد أثبت الكُرد انهم قادرون على حماية وجودهم وبناء مؤسساتهم رغم محاولات الإبادة والفوضى.

والمرحلة الراهنة، بكل تعقيداتها، تفرض على الكُرد الانتقال من مرحلة “التفاهمات الظرفية” إلى مرحلة المشروع الاستراتيجي، القائم على مرتكزات واضحة ومحددة.

1. الاعتراف المتبادل والندية السياسية

أولى خطوات البناء القومي تبدأ بإرساء ثقافة سياسية جديدة قوامها:

  • احترام الشرعية السياسية لكل حزب، قوة، مؤسسة أو إدارة كُردية
  • إنهاء منطق الإلغاء والوصاية
  • تثبيت مبدأ الندية بوصفه أساساً للعلاقات داخل الساحة الكُردية

فالفاعلية القومية لا يمكن أن تُبنى على مبدأ “الغالب والمغلوب”، بل على إدراك أن كلّ طرف يشكل جزءاً من القوة القومية الشاملة، وأن تماسك الداخل هو شرط الندية مع الخارج

2. تشكيل “مجلس تنسيق قومي”

ثاني ركائز المشروع هي ضرورة إنشاء جسم سياسي قومي دائم، يتخذ شكل:

مجلس تنسيق قومي كُردي – سوريا

تتمثل مهامه بـ:

  • ضبط الإيقاع العام للخطاب السياسي الكردي
  • إدارة الأزمات بين الأحزاب والمؤسسات بما يمنع تحول الخلافات إلى صراع
  • وضع رؤية استراتيجية مشتركة حول مستقبل الكرد في سوريا
  • خلق قناة اتصال دائمة ومنظمة مع القوى الكردستانية في باقي أجزاء كردستان

ووجود هذه الهيئة سيمنع العودة إلى الفوضى السابقة، ويضمن ألا يبقى “القرار الكردي” أسير المزاج الحزبي أو التحولات الطارئة.

3. إعادة بناء الثقة بين الأحزاب

لا يمكن لأي مشروع قومي أن يقوم على أرضية مهزوزة. ومن هنا، فإن إعادة بناء الثقة بين الأطراف الكردية تتطلب خطوات واضحة، أهمها:

  • تعهد معلن بعدم استثمار الخلافات الداخلية في الحسابات الإقليمية
  • رفض أي تحريض داخلي، واعتباره خطاً أحمر قومياً
  • الالتزام بآليات حلّ النزاعات عبر الحوار والوساطة المؤسساتية لا عبر المنابر الإعلامية

فالثقة ليست قراراً سياسياً فقط، بل مرتكزاً أخلاقياً له رمزيته في الوجدان الكردي

4. إشراك المجتمع المدني والمرأة والشباب

المشروع القومي الحديث لا يمكن أن يبقى حكراً على البنى الحزبية التقليدية. فالطاقة المجتمعية الهائلة التي يمتلكها:

  • الشباب
  • المرأة
  • الاتحادات والنقابات
  • منظمات المجتمع المدني

هي عنصر مكمل للشرعية، ورافعة ضرورية لأي مشروع وطني طويل الأمد. فبدون هؤلاء، تبقى الوحدة السياسية “اتفاقاً فوقياً”، بينما المطلوب هو وحدة اجتماعية سياسية متكاملة.

5. تحديد رؤية واضحة للكُرد في سوريا

إنّ غياب رؤية مشتركة كان أحد أهم عوامل الضعف خلال العقود الماضية. أما اليوم، فالوضع يتطلب وضع خارطة طريق قومية تشمل:

  • شكل الإدارة في روجافا: مستويات الحكم، توزيع الصلاحيات، العلاقة بين المركز والمقاطعات
  • موقع الكرد في مستقبل سوريا: نظام ديمقراطي لامركزي، وضمانات دستورية
  • الملف الأمني والعسكري: دور قوات سوريا الديمقراطية، ومستقبل المؤسسات الأمنية
  • العلاقات مع المعارضة والحكومة: خطوط العمل، أسس التفاوض، والضمانات
  • الدور الإقليمي والدولي: سياسة واضحة لا تعتمد على المزاج الخارجي بل على الندية والمصالح المتبادل

ختاماً…

أجد نفسي اليوم، وأنا أراقب هذا التحوّل التاريخي في الوعي الكُردي الجمعي والحركة السياسية الكُردية، أقف أمام حقيقة تكاد تكون بديهية: لقد دخلنا زمناً جديداً لم توجده الصدفة، بل صنعناه بدماء شهدائنا، بعناد مقاتلينا، بإصرار شعبنا الذي لم يتخلَّ يوماً عن حلم الحرية رغم كافة محاولات القمع والإلغاء والإنكار.

إن الكُرد اليوم ليسوا مجرد حركةً قوميّة شعبية تطالب بحقوقها من أنظمة فاشية أو دول غاصبة؛ نحن اليوم قوة قومية تمتلك مشروعاً سياسياً واضحاً، ومحوراً إقليمياً يتشكل حولها، ورؤية تتجاوز جغرافيا سايكس-بيكو إلى فضاء كُردستاني كامل، متكامل، حي.

ولأول مرة منذ أكثر من قرن، باتت الظروف الموضوعية والذاتية معاً-تصب في مصلحتنا.

لقد منحتنا وحدة الموقف الكُردي شرعية قومية جديدة، شرعية تُعيد ترتيب الخارطة، وتمنح صوتاً واحداً لشعبٍ لطالما تم تفتيته، وتفرض واقعاً سياسياً غير قابل للعودة إلى الوراء.

إنها فرصة تاريخية نادرة، وربما الأهم منذ ثورة الشيخ سعيد وثورة بارزاني الخالد وحتى انطلاقة روجافا.

فرصة لكي يقول الكُرد للعالم: لسنا “ملفاً جانبياً” في معادلات الشرق الأوسط، ولسنا “ورقة ضغط” بيد أحد.

نحن رقم سياسي مستقل، فاعل، قادر، ويمتلك أدواته قوة عسكرية منظّمة، تجربة إدارية راسخة، دعم شعبي واسع، وحركة سياسية وجماهيرية تسير نحو التماسك.

لكنّ الفرصة وحدها لا تكفي.

فالواقع الجديد يحتاج إلى إرادة جديدة، وإلى عقل سياسي لا يخشى الندية، وإلى قادة لا يرون في اللحظة التاريخية مناسبة للمزايدة، بل عقداً قومياً جديداً يبني ما هُدم، ويوحّد ما تشتت، ويؤسس لمرحلة سياسية كُردية جامعة تتجاوز الحزبيات نحو الوطنية الكُردستانية.

إنّ مسؤوليتنا كقوى سياسية، وكمثقفين، وكمؤسسات، وكحركة وطنية هي تحويل هذه الوحدة من حالة شعورية إلى بنية دائمة؛ من انعطافة إلى مسار؛ من مؤتمر إلى مؤسسة.

فالقضية الكُردية تقف اليوم على مفترق طرق، ولا يمكن عبور هذا المفترق إلا بثلاثة:

مشروع موحّد، رؤية موحّدة، وإرادة موحّدة.

ليس لدينا ترف التراجع، ولا الحق في التفريط، ولا الوقت لانتظار اعتراف أحد.

لقد صنعنا قوتنا بأيدينا، ويجب أن نشكل مستقبلنا بأيدينا أيضاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى