
بقلم: د. رزگار قاسم
في الأسابيع الأخيرة، عاد إلى الواجهة شبح الوجه التقليدي للنظام السوري المتمثل بالسلطة الانتقالية الجديدة، والذي يحاول أن يُلبس نفسه قناع “الدولة المدنية”، فإذا به يكشف عن جوهره المستبد، الدموي، المتعطش للسلطة، والمستعد لسحق أي مكوّن لا يخضع لإرادته المركزية. ما جرى في جبل الدروز – تلك البقعة التي لطالما شكّلت رمزاً للممانعة الوطنية والكرامة المجبولة بالتاريخ – ليس مجرد اضطراب أمني عابر، بل محطة مفصلية تُعري هشاشة الدولة السورية وتثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن ما سُمّي بـ “التسويات الوطنية” لم يكن سوى فخاخ خادعة تُركت مفتوحة لتُستخدم في اللحظة المناسبة ضد أي مكون يرفض الانصياع.
حين وقعنا في العاشر من آذار اتفاقاً سياسياً، باسم اقليم شمال وشرق سوريا، مع السلطة الإنتقالية في سورية، كنّا ندرك أن بيننا خلافات شاسعة في الرؤية والنهج، لكننا قدّرنا – أو توهمنا – أن ثمّة فرصة لانتقال سياسي عقلاني، لامركزي، يعيد الاعتبار لمفهوم الدولة التعددية، التي تنتمي إلى كلّ أبنائها دون تمييز. لم نوقع على الاتفاق بدافع الضعف، بل بدافع الإيمان بأن المرحلة تتطلب تغليب الحلول السلمية على المواجهات المسلحة، وأن الكُرد، الذين أثبتوا جدارتهم في الإدارة، والقتال، والسياسة، هم جزء لا يتجزأ من مستقبل سوريا. لقد كان الاتفاق يتضمن اعترافاً صريحاً بحقوق الإدارة الذاتية، بمكانة اللغة الكُردية، وبضمانات لمشاركة مكونات شمال وشرق سوريا في الحياة السياسية والمؤسساتية للدولة.
لكن ما حدث بعد الاتفاق كشف بجلاء نوايا الطرف الآخر. لم يمر وقت طويل حتى بدأت دمشق تتملص من التزاماتها. لم تُفعّل أي لجنة تنفيذية، لم يُفعّل الحوار المؤسساتي، بل ظهرت أصوات من داخل النظام تعتبر الاتفاق “غير ملزم”، و”تنازل مبالغ فيه”. وما انعقادهم لما يسمى بالمؤتمر الوطني والإعلان الدستوري الا دليلاً قاطعاً على ذلك، ثم جاء الانفجار في جبل الدروز ليكشف كيف يفكر هذا النظام فعلياً.
لقد تابعنا، يومًا بيوم، وبمرارة وأسى، كيف حوصرت قرى درزية، كيف قطعت المياه والكهرباء، كيف مُنعت المساعدات من الدخول، وكيف تعرّض أبناء الجبل لإهانات جسدية ومعنوية تصل إلى حدود الإبادة الرمزية، حين أجبر الشبيحة شيوخًا على حلق شواربهم تحت التهديد، في طقس وحشي لا يهدف فقط إلى القتل بل إلى إذلال جماعي متعمد. كل هذا جرى تحت ذريعة “فرض الأمن”، تماماً كما كان يجري في حلب وداريّا والغوطة… القصة نفسها: تظاهر سلمي، مطالبة بحقوق مشروعة، ثم تحريض طائفي، فهجوم دموي، ثم نكران رسمي للحدث، وتحميل الضحية مسؤولية المجازر.
وفي ظل هذا المشهد الدموي، يبدو واضحًا أن السلطة الانتقالية تكرّس فشلها السياسي باستدعاء أدوات القمع ذاتها، وتثبت أن اتفاق العاشر من آذار لم يكن بالنسبة لها سوى وسيلة لامتصاص الضغوط لا أكثر. فكيف لمكوّن سياسي مثلنا، خاض معارك ضد داعش والنصرة، وأسس مؤسسات مدنية ناجحة في الإدارة والتعليم والصحة، أن يثق بحكومة تستبيح قرى كاملة، وتحول الأطفال إلى دروع بشرية؟ كيف يمكن لأمة أن تتقدم خطوة واحدة نحو السلام بينما السلطة الحاكمة تنكّل بأبنائها دون حسيب أو رقيب؟
ليس جديدًا علينا، نحن الكُرد، أن نُصدم بالخيانة. نحن الذين كُتب علينا الشتات وتقسيم وطننا بين أربعة دول، وعانينا من المجازر، والتهجير، والإنكار، نعرف جيّدًا أن أي عقد سياسي لا يضمن آليات التنفيذ والرقابة هو مجرد حبر على ورق. واليوم، بعد ما جرى في جبل الدروز، وبعد أن خرق النظام كل روح التفاهم الوطني، نقول بوضوح: هذا الاتفاق يجب أن تلتزم به السلطة الانتقالية ويكون الاساس لبناء دولة مدنية تعددية لامركزية تشارك فيها كافة المكونات. إن من يشنّ حملة عسكرية على جزء من أبناء وطنه لا يمكنه أن يدّعي الشراكة، ولا يمكن أن يُؤتمن على مستقبل مشترك.
لقد كشفت أحداث جبل الدروز، بكل قسوتها، أن الرهان على شراكة وطنية حقيقية مع سلطة ما زالت تدير البلاد بعقلية الحصار والتجويع والقصف، هو رهان لا يليق بعقولنا ولا بتجربتنا. فلا يمكن الاستمرار في تصديق وهم التفاهمات، بينما تُسفك الدماء وتُهان الكرامات. لقد بات واضحًا أن اتفاق العاشر من آذار، بما حمله من وعود للانتقال نحو عقد اجتماعي جديد، قد تم دفنه عمليًا في مدرجات السياسة القديمة، تحت أقدام من يرفضون الاعتراف بسوريا متعددة ومتوازنة.
إن ما جرى لم يكن مجرد خرق لبند أو التفاف على تفاهم، بل كان نسفًا لروح التوافق، وتكذيبًا علنيًا لكل ما قيل عن مرحلة جديدة. ولهذا فإن إعادة التفكير بكافة أدوات العلاقة مع هذه السلطة لم يعد خيارًا بل ضرورة. لا من باب المقاطعة الشعاراتية، بل من باب المراجعة الواقعية والكرامة الوطنية.
ما نحتاجه اليوم ليس فقط اعترافًا بانتهاء صلاحية بعض الأوهام، بل أيضًا إرادة لتأسيس خطاب بديل، ورؤية تتجاوز كل ما هو استهلاكي . علينا أن نبدأ بتوسيع شبكة التواصل بين القوى المجتمعية الحقيقية، التي عرفت الثمن الفادح للاستبداد، ودفعت الدم في وجه الطغيان، سواء في كوباني أو السويداء أو ديريك أو الحسكة أو درعا. فهناك، في الهامش، تُكتب الملاحم، لا في صالات الفنادق ولا أروقة المخابرات.
نعم، ما حدث في جبل الدروز صدمة وطنية. لكنه أيضًا كشفٌ لا بدّ منه، كي نضع يدنا أخيرًا على الحقيقة: هذا النظام لا يمكن إصلاحه من الداخل، ولا يمكن الوثوق به عبر الورق. لم يبقَ أمام القوى الوطنية الحقيقية سوى أن تطرح مشروعها من موقع الفاعل، لا من موقع المنتظر، وأن تُعيد تشكيل المشهد من القاعدة، لا من السقف المتشقق.
فقط عندما نتوقف عن طلب الاعتراف من قاتل، ونبدأ بفرض وجودنا كحقيقة تاريخية وأخلاقية لا تُنكر، يمكن أن نبدأ العدّ التنازلي لسقوط هذا البناء القائم على الدم والخداع. وختامًا، فإن مسؤوليتنا، نحن الذين حلمنا بسوريا جديدة، ليست في تكرار الخطابات، بل في صناعة لحظة فاصلة، نُعلن فيها أن زمن المراوغة انتهى، وأن الكرامة السياسية ليست بندًا تفاوضيًا، بل جوهر وجودنا.
إن سوريا التي نحلم بها لا يمكن أن تُبنى على أنقاض قرى مدمرة، ولا على جثث شباب سوريين من المكونات الاخرى تم قتلهم لأنهم رفضوا الخضوع. كما لا يمكن أن تُبنى باتفاقيات شكلية، وبمفاوضات سطحية مع أنظمة تنكث العهود ساعة الاختبار.
نحن أبناء هذه الأرض وأصحاب سوريا الحقيقيين ، لسنا ضيوفًا على أحد، ولا رعايا لدى أحد، ولن نقبل أن نكون أدوات في لعبة الطغاة. وكلما سال دمٌ بريء في أي بقعة من سوريا، نزداد قناعة بأن الحل لا يأتي من فوق، بل يُفرض من القاعدة، من الشعب، من التفاهم بين المكونات، لا من جبروت العسكر.
فلنعد إلى الجذور. لنُحيي ميثاق 2004، ومظاهرات 2011، وإرادة من قاوم داعش والنصرة والنظام في آنٍ واحد. فلنكتب دستورًا جديدًا، لا يقوم على شعار “سوريا لنا” بل على قناعة أن “سوريا لنا جميعًا”. ومن لم يفهم هذه القاعدة، فلا مكان له في المستقبل.
التاريخ لا يرحم. ونحن لن نسكت.