في السنوات الأخيرة، أصبحت سياسة خلط الأوراق والمفاهيم وسيلة متكررة تستخدمها قوى متعددة في الشارع السياسي السوري. هدف هذه السياسة هو تعقيد المشهد وتضليل الرأي العام وإضعاف النخب، مما يؤدي إلى تبديد الوقت وتشويش عقول العامة. ووسط هذه الأجواء، يظهر مصطلح “المشروع الكوردي” بشكل متزايد كأحد أبرز الشعارات التي تُستخدم لخلق الانقسام بين الأكراد والعرب في سوريا.
يتضح أن استخدام مفهوم “المشروع الكوردي” يأتي غالبًا لأسباب تخلو من حسن النية؛ فبدلاً من فهم المطالب الكوردية كما هي على حقيقتها، يتم تسييسها بشكل يؤدي إلى إثارة الشقاق ويخدم مصالح دولية قد لا تهتم بمصلحة الوطن السوري. من الضروري التساؤل: هل هناك فعلًا “مشروع كوردي” يهدف إلى الانفصال أو خلق كيان خاص للأكراد في سوريا؟ أم أن هنالك رغبة حقيقية للأكراد في بناء نظام سياسي وإداري يخدم الجميع على قدم المساواة؟
الديمقراطية والفيدرالية: مطالب إنسانية أم طموحات قومية؟
للتعمق في هذا الموضوع، قد نبدأ بتساؤل بسيط: هل الديمقراطية العلمانية والفدرالية تُعتبر اختراعات كوردية؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فهذا يعني أن الأكراد هم من وضعوا حجر الأساس السياسي والإداري لكثير من الدول المتقدمة حول العالم. أما إذا كانت الإجابة بلا، فذلك يبرز أن الأكراد، مثلهم مثل غيرهم، يطمحون إلى بناء نظام سياسي قائم على قيم الإنسانية والحرية والعدالة، وهي قيم نجحت في ترسيخ الاستقرار في العديد من الدول التي تبنتها.
لا يطلب الأكراد في سوريا سوى نظام سياسي وإداري أثبت نجاحه عالمياً، قائم على الديمقراطية والفيدرالية، وهو ليس مطلبًا يخدم الأكراد فقط، بل يمكنه أن يعزز من حقوق الأفراد والجماعات بشكل متساوٍ. مثل هذه المطالب لا تعني أبداً رغبة في الهيمنة أو خلق كيان مستقل، بل هي جزء من السعي نحو بناء مجتمع سوري أكثر عدالةً وتسامحاً.
فهم الأكراد على حقيقتهم: نضال من أجل العدالة والمساواة
لطالما تمثلت مطالب الأكراد في سوريا بتحقيق العدالة والمساواة، ولم تكن هناك رغبة لديهم في نيل امتيازات على حساب الآخرين. تاريخيًا، لم يطالب الكوردي بسلب حقوق الآخرين، بل كانت مطالبه تُعنى بتحقيق المساواة، وضمان حقه في الاعتراف بهويته ووجوده على أرضه التاريخية. يعتبر هذا الأمر جوهريًا لفهم القضية الكوردية بعيدًا عن الافتراءات والمغالطات التي تهدف إلى تشويه الصورة.
الشوفينية المنتشرة تعيق أي حوار حقيقي حول حقوق الأكراد. هذا التوجه القومي المتعصب يمنع كثيرين من تحليل الحقائق والنظر إليها بروح منفتحة؛ إذ أن هذا التعصب يجعل من الصعب الوصول إلى حلول بناءة ترضي الجميع. فالأكراد يسعون منذ سنوات إلى الاعتراف بحقوقهم، ولكنهم في كثير من الأحيان يُواجهون بالإنكار والتخوين. فالمسألة ليست مسألة مشروع انفصالي، بل هي مسألة اعتراف بحقوق شعب يسعى للمساواة في وطنه.
تفكيك ادعاءات المشروع الكوردي: حقائق لا بد من فهمها
يجب التأكيد على أن أي حديث عن “المشروع الكوردي” كوسيلة لإثارة الفزع وتوجيه التهم يعد تبسيطاً خطيراً للمطالب الكوردية الحقيقية، ويعكس جهلاً أو تجاهلاً للحقائق. فالأكراد لا يطالبون بشيء يتجاوز حقوقهم، وهم منفتحون على العمل ضمن كيان سوري موحد يضمن حقوقهم وحقوق جميع المكونات. لا يعني هذا إلغاء حقوق الآخرين، بل هو مطالبة باعتراف متبادل يكرس مفهوم العدالة للجميع.
في واقع الحال، فإن هذه المطالب الكوردية لا تأتي من فراغ، بل تنبع من تاريخ طويل من التهميش والإنكار. إن استمرارية هذه الادعاءات الزائفة بوجود مشروع كوردي تسعى إلى تشتيت التركيز عن القضية الجوهرية، وهي أن الأكراد يطالبون بحقوق أساسية من حقوق المواطنة والمساواة ضمن دولة تكفل للجميع حرياتهم.
إعادة صياغة الوعي: نحو حوار بناء وتقبل للآخر
يمكن القول إن توظيف مفهوم “المشروع الكوردي” لا يخدم سوى الراغبين في إعادة ترتيب سياسات القمع بشكل جديد. إن استخدام هذا المصطلح كوسيلة للتهجم والتخوين يرسخ عقلية عدم التقبل ويعرقل أي خطوات نحو السلام الداخلي. إن النظر إلى هذه القضية بعين الشك والشوفينية لا يؤدي إلى حلول حقيقية؛ بل إلى تجديد دورات من القمع والاستبعاد.
ولذلك، فإن الخطوة الأولى نحو بناء مجتمع موحد ومستقر تتطلب فهمًا حقيقيًا لمطالب الأكراد. إذا تجاوزنا الخلافات وتحلينا بالشفافية، يمكن أن نحقق التفاهم المتبادل الذي يسمح بتحقيق العدالة والمساواة دون تجزئة الهوية السورية أو إضعافها.