
في زمن تحوّلت فيه منابر العدالة إلى مجالس تأديب عقائدي، تُحاك الاتهامات ليس ضد من أجرم، بل ضد من تجرأ على الحياد. بين القاضية ردينة جركس، التي دافعت عن ضرورة الحفاظ على الدولة المدنية، والشيخ مظهر الويس، الذي تدرّج من منصّات الفتوى إلى وزارة العدل في حكومة انتقالية تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، تُرسم حدود واضحة بين مشروعين: مشروع قاضٍ يرى القانون مرجعية، ومشروع فقيه يرى “الشرع” سلطاناً مطلقاً.
هذه ليست قصة عن قاضية فقط، بل عن تحوّل سوريا من دولة يحكمها الأمن إلى أخرى يحكمها الشيخ.
من هي ردينة جركس ولماذا أصبحت “مُتهمة”؟
في 27 ديسمبر 2024، ظهرت القاضية السورية والناشطة الحقوقية ردينة جركس في مقابلة لتقول رأيًا واضحًا وشجاعًا:
“ما يُطبق في إدلب لا يصلح لأن يُعمم على سوريا كلها. التجربة هناك تستند إلى فهم متشدد للإسلام، ولا تحترم التعدد والتنوع السوري.”
هذه الجملة كانت كافية لتُفتح النار عليها. فالقاضية، التي سبق لها أن انتقدت سلوك القضاء في عهد بشار الأسد واعتبرته “خاضعًا للأمن”، وجدت نفسها أمام سلطة دينية جديدة لا تقل قمعًا، بل أكثر غطرسة لأنها تحمل “شرعية الله” كما تدّعي.
في يونيو 2025، تداولت مصادر متعددة، منها “شام تايمز” و”السويداء ميديا”، أنباء عن إحالة ردينة جركس للتحقيق، بزعم مخالفة وظيفتها القضائية والتدخل في الشأن السياسي.
لكن الحقيقة أن جريمتها الوحيدة كانت قولها: لا لتكرار النموذج الإدْلَبي.
مظهر الويس – شرعي القاعدة الذي أمسك بوزارة العدل
في الجهة المقابلة، يُطلّ علينا الدكتور مظهر الويس، أحد رموز الفكر السلفي الجهادي، وقد أصبح في عام 2025 وزيرًا للعدل في الحكومة الانتقالية التابعة لهيئة تحرير الشام.
الرجل لا يُخفي مرجعيته:
- فقه ابن تيمية وابن عبد الوهاب،
- مفاهيم “التغريب والفساد”،
- والتركيز على أن الشريعة مقدمة على الدستور،
- وأن القضاء سلطة شرعية لا مدنية.
العدالة في تصوّره ليست أداة لتحقيق المساواة أو رد المظالم، بل أداة لتطبيق الأحكام الشرعية “على الوجه الذي يرضي الله” – حسب فهمه هو ومن معه.
بل أكثر من ذلك: في عهده، تحول القضاء من سلطة إلى جهاز حسبة، تحاسب الناس على اللباس، والسلوك، والآراء، ولا تعترف إلا بأحكام “الحدود” و”الردة” و”الولي” و”القوامة”.
سلفنة سوريا – من هيمنة الأمن إلى هيمنة الفقه
في عهد الأسد، كان القاضي مجرّد موظف، خاضع لتقارير الأمن.
أما في عهد الويس وأمثاله، فالقاضي أصبح تابعًا لـ”هيئة شرعية”، يُمتحن في مدى ولائه للعقيدة، لا للدستور.
- في الأول، كانت الدولة تسيطر باسم “الأمن القومي”.
- أما الآن، فتسيطر باسم “الحاكمية الإلهية”.
وبينما كانت الدولة تتسامح سابقًا مع التعدد، وإن كان بشكل زائف، فإن النظام السلفي الجديد يَسْعَى صراحة إلى تفكيك كل ما هو تعددي:
- يُقصي المرأة،
- يُخوّن الأقليات،
- ويُشرعن استبدادًا مغلفًا بالفتاوى.
لماذا استهدفت ردينة جركس تحديدًا؟
ردينة لم تكن معارضة فوضوية، بل صوتًا من داخل النظام القضائي نفسه.
قالت بوضوح إن التجربة الإسلامية في إدلب تتناقض مع مفهوم العدالة الانتقالية، وإن القضاء ينبغي أن يحاكم جميع المنتهكين، بمن فيهم مرتكبو المجازر في اللاذقية، وسجانو صيدنايا، وقادة الفصائل المتشددة.
كلامها تجاوز “الخط الأحمر” لدى السلفيين الجدد.
لذا، لم يكن من المستغرب أن تُحوّل للتحقيق، وربما الإقصاء.
القضاء اليوم – هل بقي فيه قضاء؟
ما الفرق بين أن تكون قاضٍ لدى نظام أمني، أو لدى سلطة شرعية؟
في الحالتين، أنت بلا سلطة حقيقية.
لكن الفرق أن النظام الأمني، مهما كان قاسيًا، ما زال يزعم أنه “دولة”. أما النظام السلفي الجهادي، فهو لا يرى الدولة أصلًا، بل يرى الحكم غنيمة شرعية ومَن خالفه فقد خالف الله.
القضاء اليوم يتآكل، ليس بفعل الحرب فقط، بل بفعل تديينه وتحويله إلى ساحة للفرز العقائدي والانتقام الأيديولوجي.
هل نُسلّم سوريا للفقيه بعد أن تخلّصنا من الجلاد؟
إن قصة ردينة جركس لا يجب أن تُقرأ كخبر عابر.
إنها مؤشر خطير على مصير العدالة والمجتمع والدولة.
إذا كان كل من يرفض سلطة الفقيه سيُحاسب، وإذا كان كل قاضٍ مدني سيتحول إلى هدف، وإذا كانت وزارة العدل تُدار بمنطق “من خالفنا فقد ارتد”…
فإننا لم نخرج من الاستبداد، بل فقط بدّلنا زيه من العسكري إلى الديني الأشدّ فتكا.
وإذا لم نرفض هذا الآن، سنستفيق قريبًا على دولة بلا قانون، بلا امرأة، بلا قاضٍ، وبلا إنسان.
بقلم: أبو دانيل الليبرالي